إن التحدي المتمثل في ضمان توفير الطعام الكافي الغني بالمغذيات لتلبية احتياجات سكان العالم الذين يتزايدون بلا انقطاع ليس تحديا هينا على الإطلاق، وخاصة في ضوء القيود المفروضة على موارد أساسية مثل المياه والأرض الزراعية. حتى وقتنا الراهن، يتلخص النهجان الرائدان في إثراء وتوسيع إمدادات الغذاء العالمية في الهندسة الجينية والمعالجة الصناعية التي تقوم على الإضافات والمواد الكيميائية. والآن، بدأ يظهر إلى الوجود حل ثالث: الزراعة الرأسية.

وقد توصلت دراسات أكاديمية إلى أن المزارع الرأسية المزروعة محليا -أي الدفيئات الزجاجية المتراصة التي تستخدم إضاءة اصطناعية لزراعة المحاصيل- من الممكن أن توفر قدرا كبيرا من الموارد، التي يمكن تمريرها بعد ذلك إلى المستهلكين. ولكن التساؤلات عن الجدوى الاقتصادية الجوهرية لهذه المزارع، وخاصة في زراعة المحاصيل السلعية، لا تزال قائمة.

ولعل هذا يوشك أن يتغير الآن. فقبل عشر سنوات تقريبا، أطلق أربعة مهندسين هولنديين مشروع “جنة النبات” لكي يتعرفوا على أفضل الطرق لزراعة الأعشاب ذات القيمة العالية والخضروات وأصناف التوت، وليس الحبوب أو ثمار الأشجار. وقد درسوا كم الضوء الذي تحتاج إليه الفاصوليا الخضراء لكي تزدهر، وأي الأطوال الموجية تنتج الطماطم الأشهى مذاقا، وعند أية درجة حرارة يزدهر الريحان، وأية تركيبة من المغذيات تنتج القنبيط الأكثر نضارة.

“ما يميز هذه الشركة أن وحدات الإنتاج النباتي بحجم مربع سكني وبارتفاع بضعة طوابق من الممكن أن تنتج نفس الكم من المحاصيل العالية الجودة التي تنتجها مزرعة ضخمة، وباستهلاك موارد أقل”

التجريب المستمر
ومن خلال التجريب المستمر، بدأ المهندسون في تطوير وصفات لكل نوع من أنواع النباتات، جنبا إلى جنب مع وضع خطة أولية “لوحدات الإنتاج النباتي” التي يمكنها توفير ظروف الزراعة المثالية حيثما زرعت هذه النباتات.

والواقع أن إمكانات هذا المشروع كتجارة قابلة للتدرج كانت ملفتة للانتباه، الأمر الذي دفع الباحثين الأربعة إلى تأسيس “بلانت لاب” في عام 2010. وبعد مرور أربعة أعوام، توظف الشركة الآن 35 شخصا، بما في ذلك مسؤول الشراكة الذي كان يتولى سابقاً إدارة سلسلة الإمداد اللوجستي لشركة فلورا هولاند، وهي أكبر سوق للزهور في العالم. ويظل المؤسسون هم حاملي الأسهم الوحيدين للشركة، وهم يريدون الاحتفاظ بالسيطرة على التكنولوجيا، في حين يعملون مع شركاء ومستثمرين لبناء الوحدات العاملة.

وفي العام الماضي بدأت شركتهم في بناء مقر -من المقرر أن ينتهي البناء في الشهر المقبل- على مساحة 18600 متر مربع بتكلفة 22 مليون دولار، بما في ذلك وحدات إنتاج نباتي متعددة ووحدات بحثية، داخل مستودع لتوزيع الأغذية بالتجزئة على بعد ستين ميلا جنوب أمستردام.

“وحدات الإنتاج النباتي تستهلك نحو 10% فقط من المياه التي تستهلكها المزارع التقليدية”

مربع سكني
وما يميز هذه الشركة أن وحدات الإنتاج النباتي بحجم مربع سكني وبارتفاع بضعة طوابق من الممكن أن تنتج نفس الكم من المحاصيل العالية الجودة التي تنتجها مزرعة ضخمة، وباستهلاك موارد أقل. والكمية الوحيدة من المياه التي تترك وحدات الإنتاج النباتي تتركز في الفواكه والخضروات، فلا يوجد تبخر إلى الهواء، ولا تتسرب مياه إلى الأرض، ولا توجد أعشاب ضارة ولا حاجة لاستخدام المبيدات الحشرية. ونتيجة لهذا فإن وحدات الإنتاج النباتي تستهلك نحو 10% فقط من المياه التي تستهلكها المزارع التقليدية.

وعلاوة على ذلك تسمح وحدات الإنتاج النباتي، مثلها في ذلك مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد، بالإنتاج محليا وبالتالي خفض تكاليف النقل والهدر وحسب الطلب، في ظل ظروف يمكن السيطرة عليها.

بعبارة أخرى، يمكن الآن زراعة أي نوع من الفواكه أو الخضروات في أي مكان وعلى مدار السنة وفي مدة زمنية لا تتجاوز بضعة أسابيع. وتتفاخر الشركة بعرض صور محسنة رقميا لنفس المرفق في مدينة تقع على تندرا شتوية في الصحراء على سطح المريخ وذلك بهدف تسليط الضوء على الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها وحدات الإنتاج النباتي.

“إذا تضاعفت الإمدادات العالمية من الخضروات على سبيل المثال، فإن الغذاء الطازج الصحي سوف يصبح أكثر توفرا بأسعار أقل، بل ربما ينخفض الطلب على شراب الذرة والأطعمة المعالجة”

ليست مكلفة
والواقع أن وحدات الإنتاج النباتي لا تعرض توفيرا كبيرا من حيث الموارد والنقل فحسب، بل إن بناءها أيضا ليس مكلفا بدرجة كبيرة. والواقع أن أي شريك برأسمال يبلغ نحو 100 مليون دولار يستطيع شراء الأرض اللازمة وإقامة خمسمائة ألف متر مربع من وحدات الإنتاج النباتي، على عشر مستويات زراعة بمسافة خمسة أقدام بين كل منها. وبطبيعة الحال تتوقف تكاليف التشغيل على أسعار المياه والكهرباء المحلية.

وتوظف المزرعة الناجمة عن هذا نحو 200 شخص لغرس البذور والرعاية والحصاد والتغليف والمبيعات واللوجستيات والإدارة. كما تزود نحو خمسين ألف شخص بحوالي 200 غرام ثابتة من احتياجاتهم اليومية من الأعشاب الطازجة والخضروات والفواكه مثل التوت لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وكل هذا في مساحة أقل من موقف سيارات متعدد الطوابق.

وقد يبدو هذا مكلفا. ولكن التكلفة التي تبلغ نحو 2000 دولار للشخص أقل كثيرا من المبلغ الذي ينفقه الأميركي العادي على الرعاية الصحية سنويا الذي يبلغ 8000 دولار. ولأن وحدات الإنتاج النباتي سوف تدوم لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وتقدم فوائد صحية كبيرة للسكان المحليين، فإن السعر بهذا يصبح ضئيلا.

غذاء أرخص
إذا تضاعفت الإمدادات العالمية من الخضروات، على سبيل المثال، فإن الغذاء الطازج الصحي سوف يصبح أكثر توفرا بأسعار أقل، بل ربما ينخفض الطلب على شراب الذرة والأطعمة المعالجة.

وتعد الماريجوانا المثال الأقرب لهذا النهج في الولايات المتحدة. ومع هذه المحاصيل العالية القيمة، يستحق الأمر دراسة تفاصيل الزراعة لضمان الجودة والحد من استهلاك الموارد. ومع تزايد نُدرة الإمدادات العالمية من المياه، فإن المزيد من الحاصلات الزراعية سوف تصبح “عالية القيمة”.

ليس من الواضح ما إذا كانت شركة “بلانت لاب” سوف تصبح زعيمة حركة وحدات الإنتاج النباتي، ولكن من الواضح أنها لاعب مهم. وإذا كانت عمليات الشركة تقدم كل الفوائد التي تتحدث عنها، فأنا أتمنى أن يبادر مؤسسوها إلى ترخيص براءات الاختراع على نطاق واسع بمرور الوقت.

“ليس من الواضح ما إذا كانت شركة “بلانت لاب” سوف تصبح زعيمة حركة وحدات الإنتاج النباتي، ولكن من الواضح أنها لاعب مهم. وإذا كانت عمليات الشركة تقدم كل الفوائد التي تتحدث عنها، فأنا أتمنى أن يبادر مؤسسوها إلى ترخيص براءات الاختراع على نطاق واسع بمرور الوقت”

التجارة
ولكن لماذا لا نجد وحدات الإنتاج النباتي في كل مكان إذن؟ الإجابة ببساطة هي أن التجارة، مثلها في ذلك مثل النبات، تستغرق وقتا لكي تنمو. وسوف يتم تخصيص جزء من موقع شركة بلانت لاب الجديد لشركة سينجينتا، وهي شركة سويسرية تعمل في مجال الصناعات الزراعية وتربية السلالات. والآن تسعى شركة بلانت لاب إلى ضم شركاء إضافيين في أسواق أخرى، مثل الأدوية ومستحضرات التجميل والمواد الغذائية.

لن يكون تمويل البناء التحدي الوحيد الذي يواجه وحدات الإنتاج النباتي في مرحلة الانطلاق. فمن المرجح أن تنظر إليها المزارع التقليدية باعتبارها منافسة ظالمة. وقد حدث نفس الشيء لشركة أمازون عندما هددت نموذج أعمال المكتبات التقليدية، تماما كما يحدث الآن مع شركة أوبر التي تتحدى نموذج خدمات سيارات الأجرة والليموزين التقليدية.

ولكن المعترضين هم أصحاب الخدمات وليس من يعملون لديهم. فيبدو أن ما لا يقل عن نصف السائقين العاملين لدى أوبر الذين التقيت بهم كانوا يعملون سائقي سيارات أجرة سابقا. وربما نجد أن نصف العاملين في المزارع الرأسية كانوا يعملون مزارعين في المزارع التقليدية سابقا، وسوف يكون النصف الثاني من الوافدين الجدد على العمل الزراعي، أو ربما يكون بعضهم من مزارعي الماريجوانا المتقاعدين.