أمسك بعملة معدنية وارمها إلى الأعلى بتقلب سريع، على أي وجه ستقع؟ لن تعرف. ضع يدك في كيس به كرات حمر وزرق خُلطت مع بعضها، أمسك بحفنة منها، ثم أخرج يدك من الكيس. إن لم تر ما اخترته حينما كانت يدك بالداخل، فلن تعلم ما ستخرجه من كرات بألوان مختلفة. اخرج في يوم ممطر وضع دلوا على الأرض، كم قطرة مطر تتوقع أن تسقط فيه؟ لن تستطيع أن تعرف ذلك بالتحديد.
اشترك في سَحب، واشتر أكبر عدد من أوراقه، هل تستطيع أن تعرف أيا منها ستفوز؟ لن تتمكن من ذلك، ولن تعرف إن كانت حتى واحدة منها ستفوز. بم تشترك كل تلك الأشياء؟ إنها تشترك في كونها عشوائية، لن تستطيع أن تحدد الأحداث الفردية لكل منها، ولكن بإمكانك أن تحدد وبدرجة مناسبة من الدقة التوجه العام لها، فمثلا لو أنك رميت بالعملة العديد من المرات فستقع بنسبة 50٪ على وجه الصورة و50٪ على وجه الكتابة (ذلك إن كانت العملة “عادلة”، أي أن تكون متساوية الوزن على الجنبين)، وستعرف أيضا عدد ما يُحتمل أن تحتوي يدك من كرات حمر بحسب عدد الكرات الكلية التي أمسكتها، وذلك لو أنك كررت إخراج الكرات عدة مرات، أو ستعرف كم هي عدد قطرات المطر كمعدل لو أنك وضعت عدة دلاء، أو بإمكانك حساب احتمال ربح أحد أوراق السحب لو أنك اشتريت عددا معينا منها، ولكن أن تحدد حدثا واحدا معينا لأي منها، فذلك أمر يكاد يكون مستحيلا إن لم يكن مستحيلا فعلا.
آينشتاين والنّرد
قد يقول البعض إن كل تلك الأشياء عشوائية، وذلك لأن المعلومات الكلية غير متوفرة، فمثلا لو علمنا سرعة استدارة العملة بالتحديد والقوة التي أطلقت بها سنعرف على أي وجه ستسقط. وبالنسبة للعملة فهناك برامج كمبيوتر تستطيع أن تحدد الوجه الذي ستسقط عليه العملة بالتحديد من خلال متابعة معلوماتها الفيزيائية، وهذا يعني أنه لا عشوائية في الأمر. ولكن ماذا عن قطرات المطر، هل يمكن متابعة كل قطرة لمعرفة كم واحدة منها ستسقط في الدلو؟
“كان آينشتاين من أشهر من دافع عن مبدأ غياب المعلومات في ميكانيكا الكم في رسالة له إلى “ماكس بورن”، حيث قال “أنا مقتنع أن الله لا يلعب النرد””
قد ندعي أن ذلك ليس بالأمر المستحيل، فلربما يأتي اليوم الذي نصنع فيه كمبيوترا يتابع قطرات المطر قطرة بقطرة ويحصي جميع معلوماتها، وبذلك نعرف عدد القطرات في الدلو، هذا وإن كان ذلك أمرا صعبا جدا -يكاد يتلاقى مع الاستحالة- ولكن إن تمكنا من هذا الشيء فهو يعني أن العشوائية ليست حقيقية، وإنما هي مجرد نقص في المعلومات.
لقد كان آينشتاين من أشهر من دافع عن مبدأ غياب المعلومات في ميكانيكا الكم في رسالة له إلى “ماكس بورن”، حيث قال “أنا مقتنع أن الله لا يلعب النرد”.
ولكن آينشتاين كان مخطئا، فالعشوائية ليست غيابا أو نقصا في المعلومات، بل هي حقيقة في عالم ميكانيكا الكم، وقد دلت التجارب العلمية الدقيقة على ذلك مرار وتكرار، وبالأخص من خلال كسر نظرية “بيل”. العشوائية هي صفة جوهرية لمكونات الكون، ولا يمكن لأي كمبيوتر معرفة حركة الجسيمات الصغيرة مهما كان فائقا في قدراته، وذلك ببساطة لأن المعلومات غير متوفرة مطلقا.
الرياضيات والعشوائية
ولهذا السبب يتعامل العلماء مع مثل هذه الظواهر على أنها عشوائية، فبالإضافة لعدم تمكنهم من معرفة الأسباب لكل حدث (قطرة الماء، لون الكرات، وجه العملة، الورقة الرابحة في السحب، وهكذا)، لا توجد أسباب حقيقية خلف حركة الجسيمات الصغيرة أيضا، وبناء عليه فقد أسس العلماء رياضيات معقدة بعنوانين مختلفة لفهم العشوائية بمنظور عام، وتسمى هذه الأبواب من العلوم بالإحصاء (Probability)، والمتغيرات العشوائية (Random Variables)، والعمليات العشوائية (Random Processes)، ويدرسها الطلاب في الجامعة في مرحلة البكالوريوس والدراسات العليا، وهي مستخدمة في جميع نواحي الحياة اليوم، فالأمثلة التي افتتحنا بها هذه المقالة ليست إلا “ألعابا” (كما يصطلح عليها في علوم الكمبيوتر) أو تسالي بسيطة بالمقارنة مع الاستخدامات الواقعية لمثل هذه الرياضيات.
“ما يهمنا من هذا الشرح للعشوائية هو القبول بوجودها كواقع لا مفر منه، سواء أكانت هذه العشوائية بسبب نقص في المعلومات أم أنها عشوائية في ظل وجود كامل للمعلومات”
لا يوجد مجال عملي واحد خال من رياضيات الاحتمالات، ولا يمكن إحصاؤها لكثرتها، ولن أستطيع أن أذكر كل مجال يستخدم الرياضيات العشوائية، ولكني أكتفي بذكر بعض أهم ما تستخدم فيه رياضيات الاحتمالات:
– تطوير الأدوية
– متابعة انتشار الأمراض المعدية
– الاتصالات مثل الأجهزة الخلوية والإنترنت
– المبيعات والأسهم والتسويق
– الطفرات الجينية
– التنبؤ بحالة الطقس والأعاصير والزلازل والفيضانات والبراكين وغيرها
– التنبؤ بدورات التوهج الشمسي والتي تعطل عمل الأجهزة الإلكترونية والكهربائية من حول العالم
– التأمين الصحي وتأمين السيارات وغيرها
– ميكانيكا الكم، والتي تعتمد على فهمها صناعة المكونات الإلكترونية الموجودة في جميع الأجهزة المختلفة مثل الهاتف الخلوي والتلفزيون والراديو والكمبيوتر إلخ
– التشفير
– حساب عدد النجوم والكواكب
ما يهمنا من هذا الشرح البسيط للعشوائية هو القبول بوجودها كواقع لا مفر منه، سواء أكانت هذه العشوائية بسبب نقص في المعلومات أم أنها عشوائية في ظل وجود كامل للمعلومات، فعلمنا بحوادث الأمور لا يتم إلا بمعرفة حقيقتها، وقد فهمها العلماء في مجملهم، ولكن لا يزال يجهلها عموم الناس.
ولهذا السبب تجد من يلجأ إلى تفسيرات خاطئة لكيفية عمل بعض الظواهر الطبيعية، فهو يبحث عن أسباب وأنماط غير موجودة فيها، ثم يبني تفسيرات خاطئة ومن ثم يحصد نتائج خاطئة. لماذا نعتبر البحث عن فهم العشوائية مهما؟ لأن الكون يعمل بهذه الطريقة في الكثير من جوانبه، ونحن نريد أن نفهم الكون كما هو لا كما نتمنى أن يكون.