هل كانت عند دارون شكوك حول نظريته؟ ألا يدافع عنها أصحابها اليوم وكأنها أمر مسلّم به وعقيدة لا شك فيها ولا ينكرها -برأيهم- إلا كل ناكر للعلم جاحد للتقدم العلمي والحضارة المعاصرة؟ فكيف يكون هناك شك فيها عند من وضعها؟ وكيف يؤكد العلم الحديث هذه الشكوك؟
أقول وبالله التوفيق: العلم الحديث لا يؤكد شكوك دارون فحسب، بل أزعم أن العلم الحديث يجعل شكوك دارون يقينا قاطعا، فيهدم النظرية من أساسها، ويكفي أن نتكلم عن شكوك دارون حول تطور العين.
يقول دارون في كتابه “أصل الأنواع”: “أعترف بصراحة أن افتراض تطور العين بواسطة الاصطفاء الطبيعي، أمر مناف للعقل إلى أقصى الحدود، وذلك نظرا لما تتمتع به العين من قدرة فذة على ضبط الرؤيا وتوضيحها مهما اختلفت المسافات، عن طريق التحكم بالطور البؤري لسقوط الضوء، وقدرة العين المدهشة على التحكم بكمية الضوء التي تدخل إلى العين”.
ثم يحاول أن يبرر ذلك فيقول: “إن وجود حيوانات مختلفة على الأرض لها عيون مختلفة، منها بسيطة ومنها معقدة، يجعل صعوبة الاعتقاد بإمكانية تطور العين حتى تصل إلى ما هي عليه من التعقيد والكمال، وإن كان يستعصي على التخيل؛ أمرا ممكنا!!” والتناقض هنا واضح، فكيف يكون تطور العين مستعصيا على التخيل وممكنا في الوقت نفسه؟
وكتب ردا على رسالة من البروفسور “آسا غراي” الذي أشار إلى القصور الشديد في نظريته عند تعرضها للعين: “أتفق معك على أن العين نقطة ضعف في نظريتي، ولا زالت حتى اليوم تصيبني ما يشبه قشعريرة باردة كلما خطرت لي، ولكنني أتغلب عليها بأن أتفكر بالتدرج الذي أعرفه للأنواع على الأرض”.
هذا إقرار واضح من دارون بأن العين طامة كبرى مقلقة بالنسبة له، وأن تعقيدها وكمالها كعضو لا يمكن تبريره بنظرية التطور، أما ما يزعمه من تغلبه على ما يصيبه من قلق وقشعريرة، فهو يتم بطريقة بعيدة كل البعد عن العلم والمنهج العلمي، حين يحاول إقناع نفسه وقرائه بأن وجود أنواع مختلفة من العيون لكائنات تعيش على الأرض، متفاوتة في تعقيدها، هو برأيه دليل على أن العين من الممكن أن تكون ناتجة عن تراكم الطفرات، مع الاصطفاء الطبيعي عبر الزمن الطويل.
ومن نافلة القول أن هذه الطريقة في البرهان بعيدة كل البعد عن المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة والبرهان والدليل، لا على الإنشاء والتوقع والتخيل، وخاصة أن دارون يتكلم عن العين المعروفة في زمانه، لا في زماننا.
الصندوق الأسود
وهل العين المعروفة في زماننا عين أخرى؟ هي العين نفسها، ولكن ما نعرفه عنها اليوم مختلف جدا، ذلك لأن الكمال والتعقيد الذي أذهل دارون وأقلقه كان على المستوى التشريحي للعين، لا على المستوى الجزيئي ولا الذري، إذ إن أقصى ما كان يمكن إبصاره بالوسائل والمجاهر المتوفرة في زمانه لا يتجاوز الخلية، فشبكية العين بالنسبة له نسيج رقيق لا يتجاوز سمكه نصف مليمتر، والعصب البصري خيط رفيع سمكه أقل من مليمترين، ولم يكن يعرف أن كلا من هذين العضوين عالم معقد قائم بذاته، وأن ما يجري في خلاياهما من عمليات معقدة، وما فيها من معلومات وبرمجيات، وما تحتويه من أنزيمات وأحماض نووية ومورثات وجينات وسوائل، كل ذلك كان غير معروف في زمن دارون، وكانت الخلية بمثابة “صندوق أسود” مليء بالأسرار، كما يقول العالم (مايكل بيهي) في كتابه “صندوق دارون الأسود”.
“إذا كان دارون يعترف بضعف نظريته أمام تعقيد وكمال العين، فماذا كان سيقول لو كان بيننا اليوم واطلع على ما كشفه العلم من تعقيد مذهل وإتقان وظيفي لعملية الإبصار؟”
فإذا كان دارون يصاب بالقشعريرة، ويعترف بضعف نظريته الشديد أمام تعقيد وكمال العين -مع أن كل ما اكتشفه عن تعقيد العين وكمالها في زمانه ليس سوى نقطة صغيرة في بحر عرمرم مما اكتشفه العلم عنها منذ عصره حتى اليوم- فماذا كان سيقول لو كان بيننا اليوم واطلع على ما كشفه العلم من تعقيد مذهل وإتقان وظيفي للعين لا يمكن وصفه إلا بالكمال؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من أن نأخذ قراءنا في جولة ممتعة داخل العين، لنطلع على طرف يسير جدا من خصائصها وصفاتها وطريقة عملها، أقول يسير جدا لأن الكلام عن العين ووظائفها وطريقة عملها لا تكفي لتغطيته المجلدات والموسوعات.
ماذا كان دارون سيقول لو علم أن شبكية العين تحتوي على أكثر من مائة مليون خلية بصرية؟ وما ذا لو علم أن هذه الخلايا أنواع: النوع الأول منها هو الخلايا المخروطية الشكل، وعددها يقدر بسبعة ملايين، وهي مختصة بتمييز الألوان وتوضيح الرؤية وتصفيتها في الإضاءة العادية والعالية؛ ومنها الخلايا القضيبية الشكل، ويقدر عددها بمائة مليون خلية، وهي مختصة بالرؤية في الإضاءة الخافتة، وكلا النوعين يوجدان في الشبكية بطريقة معينة محددة دقيقة لو اختلت أدنى اختلال لأصيب الإنسان بخلل في بصره.
وهناك نوع ثالث اكتشفه العلماء حديثا، وتسمى الخلايا العقدية الحساسة للضوء، وهذه لا علاقة لها بعملية الإبصار، ولكنها تتحسس ضوء الشمس وتتفاعل مع شروقها وغروبها وسطوعها، وتتواصل مباشرة مع مراكز معينة في الدماغ البشري، لتتحكم بما يعرف بالساعة البيولوجية للإنسان، وبنمط ونظام نومه، ولا زالت الأبحاث قائمة حول هذه الخلايا لأنها اكتشفت حديثا جدا.
أرقام مُذهلة
وماذا لو علم دارون كيف تتعامل العين مع الضوء؟ هل علم دارون أنه فور وقوع الضوء على الشبكية، تقوم الفوتونات التي يحملها شعاع الضوء بالتفاعل مع نوع من الجزيئات يسمى الواحد منها “ريدوبيسن”، فيتغير تركيب هذه الجزيئات، لتقوم بسلسلة من التفاعلات الكيميائية المعقدة، ينتج عنها أن يتم إرسال نبضات كهربائية عبر العصب البصري إلى مقر الإبصار في مؤخرة الدماغ؟ ثم تعود تلك الجزيئات إلى حالتها قبل تفاعلها مع الفوتونات لتستقبل شعاعا ضوئيا جديدا وفوتونات جديدة؟ ثم تقوم بتفاعلات جديدة وترسل نبضات جديدة؟ وأن هذه الدورة من التفاعلات لا تستغرق أكثر من “بيكو ثانية”، وهي وحدة لقياس الزمن تعادل جزءا من تريليون جزء من الثانية؟
وهل كان دارون يعلم أن العصب البصري الذي ينقل تلك النبضات، والذي لا يزيد قطره على 1.8 مليمتر فقط، يتألف من حزمة تضم أكثر من مليون ومائتي ألف من الألياف العصبية البصرية؟ (ولنا أن نتخيل ما قطر كل ليف منها؟!)، وهل كان يعلم أن الألياف التي تشكل هذه الحزمة المذهلة ليست نوعا واحدا بل أنواعا متعددة؟ وأن كل نوع منها يختص بنقل نوع محدد من الصورة؟
“أكد العلم الحديث وبشكل قاطع أن قلق دارون الشديد من تأثير العين على نظريته كان في محله تماما، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الكلام عن تطور العين ضرب من الخيال”
وهل كان يعلم أن مقر الإبصار في الدماغ يقوم بمعالجة النبضات الكهربائية الواصلة إليه ليحولها إلى صورة، وذلك عبر سلسلة غاية في التعقيد من التفاعلات الكيميائية والعمليات العصبية التي ما زال العلم يكشف المزيد عنها حتى اليوم.
إذا كانت المعلومات البدائية التي عرفها دارون عن العين جعلته يقر بأن افتراض تطورها أمر مناف للعقل والمنطق إلى أبعد الحدود، فماذا نتوقع منه لو أن العلم في زمانه توصل إلى ما يعرفه العلم اليوم عن العين وطريقة عملها المذهلة المدهشة؟
لقد أكد العلم الحديث وبشكل قاطع أن قلق دارون الشديد من تأثير العين على نظريته كان في محله تماما، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الكلام عن تطور العين ضرب من الخيال لا يؤيده علم ولا عقل ولا منطق، ومن يكابر ويشكك في هذا الأمر فإن العلم يتحداه في أن يفسر لنا كيف يمكن للطفرات والاصطفاء الطبيعي أن ينتج عنها مثل هذا العضو الخارق، ونريد ذلك ببراهين علمية قاطعة ملموسة.
إن كانت العين قد تطورت كما يدعون، فما مسار تطورها؟ هل كانت عيون أسلافنا خارج الجمجمة ثم حصلت طفرات نتج عنها كائنات بجماجم لها تجويف مناسب للعين، ثم قام الاصطفاء الطبيعي بإبادة التي لا تجاويف عينية لها والإبقاء على تلك التي لها تجاويف؟ هل كان الضوء يدخل العين بشكل عشوائي، فيقع بعضه أمام الشبكية وبعضه خلفها وبعضه عليها، فحصلت طفرة أو طفرات نتج عنها كائنات بعدسات مرنة تتكيف مع الضوء ويتغير بعدها البؤري مع تغير بعد الأجسام عن العين، ثم قام الاصطفاء الطبيعي بإبادة تلك التي لا عدسة مرنة لها، وأبقى على الكائنات ذات العدسات المرنة؟
والشبكية -وما أدراك ما الشبكية- كيف كانت حالتها الأولى قبل أن تتطور؟ وكيف تطورت حتى ترتبت خلاياها التي يزيد عددها على المائة مليون بهذا الشكل العجيب، وتركز كل نوع منها في مكانه حتى تعطي الإنسان هذه الرؤية بجميع الألوان وفي كل الأحوال: في الضوء الساطع والخافت، وللأجسام البعيدة والقريبة.
وتلك العمليات المعقدة الخارقة التي تنقل شعاع الضوء عبر العصب البصري؟ كيف كانت تجري في أسلافنا، وكيف تطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه؟ وكيف تعلمت الشبكية قوانين الضوء ومكونات أشعته، وخصائص الفوتونات وأطوال أمواج كل لون وطريقة تفاعل أشعته مع مختلف الجزيئات، ومن ثم كيف قامت تلك الخلايا بتصنيع الجزيئات الخاصة المناسبة للتفاعل مع الفوتونات وتحويلها إلى جزيئات كيميائية، ثم إلى نبضات كهربائية، ثم إرسالها عبر العصب البصري للدماغ ليحولها مرة أخرى إلى جزيئات كيميائية ثم إلى صورة بصرية، كما رأينا آنفا.
أسئلة دون أجوبة
هل يستطيع التطوريون أن يثبتوا كيف تطورت شبكية العين حتى قامت بكل هذه الأمور ووصلت إلى ما هي عليه من دقة وروعة وإتقان وإعجاز؟ هل كان لنا أسلاف بشبكيات لا تتقن هذه الأعمال، فنشأت طفرات نتج عنها كائنات بشبكيات متطورة، ثم حدث الاصطفاء فانقرضت الكائنات ذوات الشبكيات المتخلفة وبقيت ذوات الشبكيات المتطورة؟ أليس هذا ما تزعمه نظرية دارون؟ أرونا الأدلة على ذلك حتى نصدقها.
“دارون كان محقا تماما في قلقه وشكوكه حول العين، والعلم الحديث لم يبدد هذه الشكوك بل حولها إلى يقين قاطع، وهذا بلا شك أحد المعاول القاضية التي تهدم نظرية دارون من أساسها”
والعصب البصري العجيب، أرونا متى حدث ذاك الثقب في الجمجمة الذي يسمح بمروره للدماغ، وكيف تطور حتى تمكن من نقل النبضات الكهربائية العصبية من الشبكية إلى الدماغ ليحولها مرة أخرى إلى جزيئات كيميائية ثم إلى صورة بصرية؟ وكيف كان العصب البصري في أسلافنا المزعومين؟ أرونا دليلا على وجود بشر بعصب بصري بدائي، ثم أرونا دليلا على حدوث طفرات نتج عنها كائنات بعصب بصري أكثر تطورا فانقرض الجنس البدائي وبقي الجنس المتطور.
وهل كان أسلافنا المزعومون مصابين بالحول، لأنهم كانوا يبصرون بعينين اثنتين، تنقل لدماغهم صورتين، فتطوروا حتى أصبح الدماغ يدمج صورتي العينين في صورة واحدة بعملية غاية في التعقيد والإعجاز يسميها العلماء “المطابقة”؟
وهل.. وهل.. وكيف.. وكيف.. لقد سطر العلماء الموسوعات والمجلدات في خصائص العين البشرية وطريقة عملها وتعاملها مع الضوء، ولو قارنا العين التي عرفها دارون فأذهلته وأمرضته وشككته، مع العين التي نعرفها اليوم، فكأننا نقارن لعبة أطفال على شكل سفينة فضاء، مع سفينة فضاء حقيقية بكل أجهزتها وبرمجياتها ومعلوماتها وخصائصها ووسائل اتصالها.
لقد تجاهل دارون -وكذلك يفعل كل من يتبنى نظريته حتى اليوم- ثلاثة أمور حول العين لا يتحدثون عنها إطلاقا عند الحديث عن نظرية التطور.
الأول هو: كيف ومتى نشأت العين الأولى على سطح الأرض؟ والثاني هو: كيف تتعامل العين مع الضوء فتحوله إلى صورة مرئية؟ والثالث هو: كيف تطورت العين البدائية المزعومة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم؟
ابحثوا في كتبهم ومراجعهم فلن تجدوا عن هذه الأمور شيئا، وإن وجد شيء فهو كلام إنشائي لا يمكن قبوله بأي مقياس من مقاييس العلم والبحث العلمي والتجربة والدليل والبرهان.
نستطيع أن نقول بناء على ما سبق إن دارون كان محقا تماما في قلقه وشكوكه حول العين، وإن العلم الحديث لم يبدد هذه الشكوك، بل حولها إلى يقين قاطع، وإن العين وحدها واستحالة تطورها هو بلا شك أحد المعاول القاضية التي تهدم نظرية دارون من أساسها.